مات الرجل وبدأت محاكمته

في وسع الخيال أن ينتشلنا من واقع لايعرف العامة من الناس من أين تأتيه كل هذه المآسي. يلعنُنا ونلعنه ونتجاوزه بقليل من الإيمان بأن الأفق سيلامس الأمن وحياة أفضل. هي دورة الحياة التي تدرب عليها الكائن منذ الحضارات القديمة كالإغريق وسكان بلاد الرافدين … وصولا إلى الأنظمة الحديثة الوطنية وما بعدها، ولئن تعددت أوجه الواقع المؤلم فالرغبة في تجاوزه تبقى واحدة بقطع النظر عن الوسائل المبتكرة لتغييره، كأن نكتب عنه مثلما تصرف بطل رواية الخبز الحافي للراحل محمد شكري بقوله: “يضربني ويلعنني ، أضربه وألعنه في خيالي ، لولا الخيال لانفجرت “، أو ننخرط في نقاش عمومي تؤمنه إرادة سياسية حقيقية وتُيسره حصيلة حقوقية تراعي المكاسب الكونية، وتقدم لجهات المملكة وأقاليمها النفس المناسب الذي تنتظره الجهوية بوصفها خيار المملكة لتحقيق التمنية المنتظرة وتدبير الأزمات على كافة المستويات .
نستعيد مع ناصر حامد أبوزيد عنوانه المغرق في الجدل حول زكي نجيب محمود ” مات الرجل وبدأت محاكمته”في إشارة منه إلى الدور الذي لعبه د محمد عمارة دفاعا عنه لتبرئته من الخصوم والمتهافتين ،وهو عنوان مناسب أيضا لتوصيف واقعنا الذي يمر من أحداث متفرقة ، تجعلنا نشعر أن مجتمعنا بين بين ، بين النظام واللانظام، وبين حالة الثقافة وحالة الطبيعة ، كلما حاولنا تحريك ضمائرنا بالقول والكتابة كلما أصبنا بخيبة أمل؛ إذا كلما ولجنا إدارة أو مؤسسة وخرجنا منها أكلنا الشارع بمقالب ناسه وفوضى كائناته فنقتنع بأن الحداثة والمعرفة لم تجنبنا وباء الجهل والعودة إلى سنوات السيبة وقطاع الطرق والردة في كل مناحي الحياة، والتراجع عن فكرة الوطن بوصفه طوق نجاة للجميع أمام انهيار العولمة التقليدية وإقامة حدود دولية جديدة. إذن هل نفقد أمام هذا “الاحتباس القيمي” ،كما استعمل د بنيس هذا المصطلح ،تعريفنا للمجتمع خصوصا وأننا ورثنا تراثا فكريا نفكر منذ قرون متواصلة في إطاره؟.
إن عبارات مثل سرقة شبان لأضاحي العيد بغاية التقرب من الله، ومشاركة النساء للرجال في نشر الفوضى والعنف بأسواق بيع الأضاحي ، وإصدار قرار حكومي متسرع دون تعبئة لمنع التنقل بين المدن في ظرف حساس يجمع بين رغبة الناس في تقاسم لحظات عيد الأضحى رفقة عائلاتهم والخوف من انتشار وباء كوفيد 19 ،وشلل حركة النقل بالمحطات الطرقية بسبب حوادث سير مميتة في الطريق السيار والطرق العادية وقبلها سرقة الحلوى من البرلمان ،وسرقة قنينات المشروبات الغازية وأتصور لو كان الأمر متعلقا بالخبز لكان مختلفا …..إن هذه العبارات ليست بريئة ودائرة الفساد والعنف توسعت لتشمل الشباب والنساء والرجال أيضا.
في هذا المساق، من سيضمن تمكين هؤلاء الناس من احترام قواعد السلوك الإنساني كي يعيشوا ضمن المجتمع الذي خاطبه جلالة الملك ونزل أفراده منزله أبنائه في خطابه الأخير حرصا منه على سلامة المواطنين؟ أتصور أن الأمر يستدعي إعادة النظر في روح القوانين والفاعلين الاجتماعيين ،في التربية والفلسفة الاجتماعية ووسائط التنشئة التي تقود إلى النظام ، والانتقال من فهم العلاقات الاجتماعية إلى بناء المجتمع وإلا سيكون المجتمع ضد نفسه، محاطا بالانتكاسة من كل جانب.
فلما ألقت كورونا بكل الاحتمالات في عقول الناس ، سارع الكل إلى مواجهة الموت وانتصب المشهد : رجال الأمن منتشرون في كل مكان،في مداخل المدن والأحياء الضيقة منها، تعرفنا إليهم عن قرب ، ورجال السلطة والجيش والدرك وجمعيات المجتمع المدني يواصلون عملهم بمكبرات الصوت وحملات التحسيس تنفيدا لحالة الطوارئ وتحصين الجبهات لتمكين المغرب من الخروج إلى بر الأمان، وطوال هذا الحرص والمرابطة ظل المغرب بين أيدي الأطباء ورجال الصحة وإرادة تدرك تمام الإدراك ما الذي تعنيه فكرة الوطن ، وتمكن الأساتذة من مواصلة رسالتهم التعليمية عن بعد ،في كل هذه الجهود كانت تشرق في الأفق شمس التماسك والتضامن والمسؤولية ، وستسجل هذه المرحلة أن البعض لم يكن مسؤولا ولن يكون، منهم من خلق حالة من الفوضى وجعل الناس تستنفد الجزء الأكبر من طاقة العقل والنفس والقيم، وتوفر لنا ثقافة “السيفانا” القديمة قسطا هاما من المعرفة لفهم جُماع ما أنتجوه من قيم غير إنسانية.
كثيرون ممن هزمهم الموت ، وآخرون هزمتهم أوطانهم ،وقلة هزمت أوطانها، ومَحَافظ الأنظمة السرية وذاكرة المجتعات الحية تحتفظ بمخزون الموت وأشكال الحياة والانتصارات أيضا، رغم أن الناس لا يحصون إلا الخسائر… لكن طوبى لمن هزموا أنفسهم ، وساروا سير الواثق نحو ضمان الأمن والاستقرار وبناء مدن حقيقية. هناك أشخاص لا يمكن التشكيك في وطنيتهم ورجاحة مواقفهم ،كل هؤلاء يأسرون الأفئدة ويجدرون روح الانتماء إلى الجماعة لديك ، ومنهم الأطباء والأساتذة و رجال الأمن المرابطون في كل مكان ورجال السلطة والدرك وعاملو النظافة و الأمهات وجمعيات المجتمع المدني ورجال الإعلام…
ليس الموت هو الخيار الوحيد الذي تبقى للإنسان ، كي يتمرغ في هذا “الاحتباس القيمي “، مجسدا دور الضحية بأنه لا يملك ثمن أضحية أو حلوى ، أو قنينة مشروب غازي …وهو المعتدي في الوقت نفسه بسرقتها وإثارة الفوضى في زمن يفرض التماسك والوطنية الحقة…ليس الارتطام بجدار الأفق المسدود هو الحل الوحيد الذي يحتفظ به المغاربة في مخرون تجاربهم وتراثهم وأحلامهم ، بل أمام مغربنا كل الفرص للنهوض به وحمايته. وأردد مع دوستويفسكي قولته الشهيرة :”لن أصدق ولا أصدق أن الشر هو الوضع الطبيعي للبشرية ” رغم أننا في الهم شرق ومواطنون.
د: عبد العزيز بنار أستاذ مبرز وباحث: جامعة شعيب الدكالي بالجديدة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الحي الجامعي بالجديدة … ديناميكية جديدة ودخول جامعي مميز

يعرف الحي الجامعي بالجديدة ديناميكية وحركة واسعة ونشاط كبير، بسبب المتغيرات الجدرية التي عرفها هذا ...